الاثنين، 14 مارس 2016

درس مطالعة (إنّهم يسحقون الورد): محمّد بدوي حجازي + المحاورة مع الكاتب، 2015-2016


{أستاذة العربيّة {
³ إنّهم يسحقون الورد: محمّد بدوي حجازي + المحاورة مع الكاتب ³
{ فوزيّة الشّطّي {
درس مطالعة ³ 2 ث ³ معهد قرطاج حنّبعل ³ 2015-2016
لفظته "الحافلةُ" في الميدان الواسع وسط المدينة. فطفق يمشي كما الجميع، مقوّس الظّهر، قانطا ومهدودا وكأنّ صدره ينوءُ بحمل ٍ ثقيل. لم تكن حاله بأفضل من حال الكثيرين الّذين انفجرتْ عنهم المدينةُ هذا الصباح. عينان غائرتان انطفأ بريقهما منذ زمن ٍ بعيد، وجهٌ شاحبٌ مصفرّ وخطواتٌ هزيلة ومضطربة تظنّ أنّها ستهوي بصاحبها إلى جانب الدّرب بين لحظة ٍ وأخرى. ولكن حينما اشتعل التّظاهرُ مُـمزّقا صمتَ المدينة الكريه، انتصب ذلك الجسدُ المهدود فجأة لتعتدل قامتُه في شموخ وتنتفخ عضلاتّه ويدبّ النّشاطُ في كلّ خليّة من خلايا جسمه، فتبرق عيناه وتقدحان رعدا وبروقا، شُهُبا ونيازك. بدا وكأنّ أحدَهم حقنه بإكسير الفتوة. اِنضم َّ إلى بركان الغضب الراعد مهرولا ً كحصان ٍ نشط. "اليومَ يومُ الورد!".
أخذ يصول ويجول، يكرُّ ويفرُّ، يهشِّم، يحطِّم ويشعل النّيرانَ في قلب المدينة القاسية، تلك الّتي ما فتِئتْ تحرق قلبَه كلَّ صباح وتسحق الورد. وبيديه العاريتين أخذ يشوِّه وجهَ المدينة البذيء لتتهاوى المساحيق أمام ضرباته العادلة المظلومة. اليومَ يومُ الورد!.
كان يزن ضرباته بميزان الورد، ذلك الّذي داستْه الأحذيةُ الغليظة نفسها بليلٍ. فما طفف، وما خسر، وما نبا له سهمٌ. أخيرا جلس على جانب الرصيف يلتقط أنفاسَه ويرقب النّيران وهي تلتهم وجهَ المدينة المزيـَّفَ لتخبُوَ نيرانُ قلبه شيئا فشيئا.
لم يكن يدري سرَّ انفجار البركان هذا الصباح، بل لم يقفْ ليتساءل عن السّبب. إنّ هذه المدينةَ اللّئيمة تستحقّ الشّنقَ، مدينة ٌ يحيد القمرُ عن سمائها وتتحاشاها العصافيرُ، ظلّتْ تُطبق على أضلاعه حتّى تهشّمت وتدوسُ بحذائها الغليظ على وجهه حتّى تعفـَّر وتسحقُ الورودَ كلّما تفتّحت. ثمّ تمضي هازئةً من آلامه ساخرة من عجزه. ولم يكن يهمُّه ذلك بقدر ما هَـمَّهُ مصيرُ الورد. ستّةَ عشر عاما ولم تتفتّحْ في هذه المدينة وردةٌ. فسكّانُ هذه المدينة الدّنيئة لا يهتمّون بالورد، لم يكونوا يُولُونَه عنايتَهم في القديم ولم يفكّروا في الثّأر له حين دهمته الأحذيةُ الغليظة، بدا وكأنّهم لا يدركون ما للوردة من سلطان.  ظلّ يرقبهم ليلَ نهارَ والألمُ يُطبق على قلبه. كان في انتظار بادرة منهم تُبشــِّر بمستقبل الورد. ولكن ظلّتْ أعينُهم جميعُها تعانق التّرابَ وأنوفُهم لا تفتقد عطرَ الوردة أو تتساءل عن سرّ اختفائه من أسواق المدينة. فكيف انقلبت الحال هذا الصّباحَ؟ كيف انتصروا للوردة أخيرا وأخرجوا ألسنتَهم لهذه المدينة القاسية؟ سمعهم يقولون أنّها ابتلعتِ الزّعيمَ ليلةَ الأمس وأنّ أنصارَه الغاضبين هم من اخترق جدارَ الصّمت. لم يكن يدري أيَّ زعيم جديد ابتلعتْه هذه المدينةُ الدّنيئة. ولكنْ كان يعلم أنّ جوفَها يتّسع لابتلاع ملايين الزَّعماء. لذا لم يشغلْ نفسه بالتّفكير بل اندفع يقاتل مع المقاتلين منتصرا للورد. بغتةً سمع الرّجلُ همهمةً غاضبة وصليلَ سلاح ٍ أبيض. ورآهم يتقدّمون نحوه وهم يُزمجرون، لم يكن ليتبيّنَ كلماتهم أو يفهمَ مغزاها. بل لم يَدُرْ بذهنه أنّها تعنيه أو أنّ أصحابَها يقصدونَه بالشّرّ. لاحُوا لعينيه المتعبتين في البعيد، طِوَالَ القامة لامعِي السّواد، متأنِّقين. فكّر الرّجلُ، لابدّ أنّهم أنصارُ الزّعيم، يا لشجاعتهم! اقتربوا أكثر، ابتسم لهم من عينيه. ثمّ رفع يدَه السّمراء المتعَبة شارةَ النّصر. اقتربوا أكثر، فكَّرَ أنْ يحدّثهم عن الورد وروحه المعذَّبة. ولكنْ لم يجد وقتا لذلك. عاجَله أكثرُهم أناقةً بضربة قاسية على أمّ رأسِه لتتّسعَ عيناه دهشةً وألما. صرخ بصوت ٍ متحَشرج: " لماذا؟!". وعادت "الفأسُ" تهوي على رأسه من جديد ليسقطَ غارقا في دمائه. قاوم الألمَ بضراوة كي يُبقيَ على صفاء ذهنه. أغمضَ عينيه في ألم ٍ وهو يُجهِد عقلَه في محاولة مريرة كي يفهمَ. ويبدُو أنّه قد فهم أخيرا.  فلقد ألقى نظرةً حزينةً وعميقة على يده السّمراء المتعبـَة وكأنّه يتّهمها بجريمة مّا. ثمّ عاد بنظراته إلى وجه قاتِله يتمعّنه في فضول. لم يجدْ أيّةَ غرابةٍ في تلك الملامح النّيليّة السّوداء النّبيلة. جـزَّ على أسنانه بقوّة كي تَخرجَ كلماتُه واضحة ومفهومة: "أنا هو أنت.. كلّنا ضحايا، يا أخي.. لقد سامحتُك.. فقط.. تذكَّرْ.. أنَّهم.. يسحقون الورد".
v الخرطوم في أحد نهارات 2005م v
v اِقرأْ هذه القصّةَ، ثمّ أجبْ عن المسائل التّالية:
-        استخرِجْ شخصيّات القصّة مُعرّفا إيّاها محدّدا طبيعةَ العلاقات بينها.
-        الوردُ عنصرٌ رمزيٌّ في القصّة. إلامَ يرمزُ حسْبَ رأيك؟
-        تنتمي شخصيّةُ "الرّجل" القتيل إلى فئة الـمهمَّشين. ما الأدلّةُ على ذلك؟  .ª.
................................................................................................................
المحاورة مع الكاتب:
| أسئلتي:
صباحَ الخير، أستاذ "محمّد بدوي حجازي".
أريد، بعد إذنك طبعا، أن أدرّسَ هذه أقصوصةَ «إنّهمْ يَسحقونَ الورد» لتلاميذ "السّنة الثّانية ثانوي" في مادّة المطالعة. وأرجُو أن تساهمَ في تفكيك دلالاتها وفهْم رموزها. وسأنشرُ الأقصوصةَ وإجاباتك المنتظرةَ في مدوّنتي كدرس مطالعة، عسى أن يستفيدُ منه المدرّسون والمتعلّمون على السّواء.
هذه أسئلتي:
-        شخصيّاتُ القصّة بلا هويّاتٍ محدّدة والعلاقاتُ بينها واهيةٌ والأفعالُ المسندَة إليها غامضة. لماذا؟
-       ما الحدثُ العامّ (التّظاهر) الّذي سبّبَ الانتفاضةَ المفاجئة للرّجلِ الصّامت: أتوجد مرجعيّةٌ تاريخيّة واقعيّة؟ أم هو متخيَّلٌ أدبيّ؟
-       الوردُ عنصرٌ رمزيٌّ في القصّة. إلامَ يرمزُ؟ وما المقصودُ من الجريمة الجماعيّة الّتي تمثّلت في عمليّة "سحقه"؟
-       تنتمي شخصيّةُ "الرّجل" القتيل إلى فئة الـمهمَّشين الّذين لا يأبه المجتمعُ الإقصائيُّ بحياتهم ولا بموتهم. منْ هو؟ من يمثّلُ؟ لماذا وُلِد عبثا ورحل دون جدوى؟
-        لم يحقدِ القتيلُ على قاتله. إنّما بدا مشفِقا عليه متعاطِفا معه؟ ما رمزيّةُ ذلك؟ 
مع جزيل الشّكر مسبّقا.
| ردُّ الكاتب:
تحيّاتي وشكري، الأستاذة الجليلة والصّديقة العزيزة.
ملاحظاتُك أو أسئلتُك هي نفسها تفكيكٌ للقصّة وتدلّ على الحساسيّة النّقديّة العالية.
القصّةُ تعتمد على حدث واقعيّ عاشه السّودانيّون وسيذكرونه زمانا طويلا. وربّـما لا يُعجِب ذلك البعضَ ويرونه ضارّا بها كنصٍّ أدبيّ. إذ أنّه باستحضار هذا الحدثِ في ذهن القارئ يُفقِدُ النّصُّ بريقَه وتتحوّل القصّةُ إلى موقفٍ سياسيّ. وهذا ما لا يروق بكلّ تأكيدٍ للسّادة النُّقّاد الّذين أسمعهم دائما يلهجون بمصطلحاتٍ نقديّة كثيرة وكبيرة وفخمة، لا أفهمُها ولا أظنُّ أنّ حالَ الكثيرِ من مردِّديها بأفضلَ من حالي.
صحيحٌ لم يتمَّ التّركيزُ على رسم ملامح أبطالِ القصّة بالدّقّة المتّبعة. إذ لم يعتمدِ النّصُّ ما هو سائدٌ في رسم ملامح الشّخصيّات. فبدتْ غامضة ومُبهَمة بالمقياس الـمُتّبع في الحَكْي. كلُّ ذلك حدثَ انحيازا للهُويّة المسيطرة في النّصّ (إنْ صحَّ التّعبيرُ). إنّهم (الكُلّ). أيُّ شخصٍ مهمَّش مطحون مسحوق يَغْلي غضبا ويبقَى صامتا. في ذاتِ الوقت غُضَّ النّظرُ عن أيّة صفةٍ أخرى تجعلُه مختلفا. فهو البطلُ. إنّهم شخصٌ واحد، موقفٌ واحد، صفٌّ واحد.
ولنقرأ :
(فطفق يمشِي كما الجميعُ، مقوَّس الظّهر، قانطا ومهدودا، وكأنّ صدرَه ينوءُ بحِمْلٍ ثقيل. لم تكنْ حالُه بأفضل من حالِ الكثيرين الّذين انفجرتْ عنهم المدينةُ هذا الصّباحَ، عينان غائرتان انطفأ بريقُهما منذ زمنٍ بعيد، وجهٌ شاحبٌ مصفرٌّ وخطواتٌ هزيلةٌ ومضطربةٌ تَظنُّ أنّها ستهوِي بصاحبِها إلى جانب الدّرب بين لحظةٍ وأخرى).
هذا هو البطلُ، ولا شيء غيره، لا اسم، لا صفات جسمانيّة مُـميِّزة، لا لون، لا عرق. إنّهُ هُمْ، أيُّ شخصٍ منهم هو بطلُ هذه القصّة.
ونقرأ أيضا:
(إنّ هذه المدينةَ اللّئيمة تستحقُّ الشّنقَ، مدينةٌ يَـحيدُ القمر عن سمائها وتتحاشَاها العصافيرُ، ظلّتْ تُطبِق على أضلاعه حتّى تهشّمتْ وتدوسُ بحذائِها الغليظِ على وجهِه حتّى تَعفـَّر وتَسْحقُ الورودَ كلّما تفتّحتْ، ثمّ تمضِي هازئةً من آلامِه ساخرةً مِن عَجْزه).
شخصٌ مسحوقٌ مهمَّش مطحون يغلِي غضبا وصامتٌ في ذات الوقت. إنّه أنا وأنت وهي وهو. إنّه الجميعُ: هذه هي الهويّةُ (إنْ صحّ التّعبيرُ) الّتي يَعتمدها النّصُّ عن قصدٍ لِيصطفَّ النّاسُ على أساسِها ويواجهوا أقدارَهم.
وحين نتقدّمُ قليلا نجد أنّ هذا (الأنَا) أو هذا (الجميع) الّذي يبدو من أوّلِ وَهلة كُلاّ متّحِدا أو مِن المفترَض أنْ يكون كُلاّ متّحِدا في مواجهةِ غاصِبيه الّذين سحقُوا الوردَ وداسُوا على الأضْلاع حتّى تهشّمتْ. سينقسمُ بعد قليلٍ، ويُنتج هويّتيْن متغايِرتيْن ومتصادمتيْن، سينقسم إلى نصفيْن يَصُبّان جامَّ غضبِهما على بعضِهما البعض، ويتركان غاصبِيهم ومُستعبدِيهم.
ولمعرفة السّبب لنقرأْ هذا:
(أغْمضَ عينيه في ألمٍ وهو يُجهِد عقلَه في محاولةٍ مريرةٍ كيْ يَفهمَ، ويبدُو أنّه قد فهِم أخيرا. فلقد ألقَى نظرةً حزينةً وعميقة على يدِه السّمراء المتعبـَة وكأنّه يتّهمُها بجريمةٍ مّا، ثمّ عاد بنظراته إلى وجهِ قاتله يتمعّنه في فضول، لم يجدْ أيّةَ غرابةٍ في تلك الملامحِ النّيليّة السّوداء النّبيلة).
نعمْ، يدُه السّمراء هي السّببُ. هي سببُ موتِه. لقد اصطفَّ المسحوقُون والمهمَّشون كلٌّ خلفَ لونِ بشرته. أسمرُ ضدَّ أكثر سمارا أو أسودُ ضدَّ أقلّ سوادا. وتركُوا المدينةَ القاسية والأحذيةَ الغليظة الّتي داستْ على الورد. نعمْ، ترك المسحوقون الظّالمَ آمِنا مطمئِنّا يُراقبهمْ وهو يضحكُ ملْءَ شِدْقيْه، وانقلبُوا يُفنُون بعضَهم البعض. لقد تمّ تزيِيفُ الصّراع.
لِهذا الاصطفافِ جذورٌ عميقة وغائرة في التّاريخ البشريّ وتاريخِ المجتمع السّودانيّ تحديدا، جذورٌ يُدركها الرّجلُ الأسمرُ الصّامتُ ويَعِيها جيّدا بل يعي دورَه فيها (أقصدُ كشخصٍ مختلِف). لذا فإنّ هذا الوعيَ جعله أكثرَ تسامحا ومتعاطِفا مع قاتلِه، وربّـما بدَا له أنّه يسدِّد ديْنا قديما أو يَدفع ثمنَ خطأ وجوديّ جعلَه لا يُشبِه الآخرَ أو جعل الآخرَ لا يُشبِهُه (في الشّكل طبعا). وهذه قمّةُ المأساة. ولكنّه يُدرك تماما أُسَّ المشكلة، وهي الورد الغائب والّذي خرج متظاهِرا لنُصرته. إنّه يُدرك حقيقةَ الصّراع على عكسِ قاتلِه الّذي خرج وِفْقا لمفهومٍ مغايِر ووعيٍ زائف. وقمّةُ مأساته وعبثيّةُ موتِه وميلادِه وحتّى نضالِه هو اعتمادُ الهويّة المزيَّفة كمقياسٍ من قبل الجماهير. إذ إنّه يُصبح وفقا لها ظالما غاصِبا بل ممّن سحقُوا الوردَ. وهذا مِن المضحكات المبكيات أنْ يُقال لمظلومٍ: «إنّك ظالمٌ لأنّ لونَ بشرتك يُشبِه لونَ بشرة الظّالمين!».
إنّ ثقافةَ الورد وعطرَ الورد وإهداءَ الورد تتطلّبُ مجتمعا بلغَ من النّموِّ والتّطوّر والحداثة والتّمدّن حدّا لم تصلِه غالبيّةُ مجتمعاتنا حتّى الآن. ولا أريدُ أن أربطَه بطبقةٍ معيّنة أو فئة محدّدة أو مرحلة تاريخيّة مّا. ويحضرني تعليقُ إحدى الزّميلات أيّامَ الدّراسة حين قالت ما معناه: (إهداءُ وردةٍ للحبيبة اليومَ في مجتمعاتنا يجعلُ غالبيّةَ النّاس يضحكون ويتندّرون على الفاعل، وربّـما انفجرت الحبيبةُ نفسُها ضحكا على سذاجة الشّاب). ويقابلُ تعليقَ الزّميلة تعليقُ زميل آخر حين قال ما معناه: (ماذا تعنِي الدّيمقراطيّةُ النّيابيّة وصناديقُ الاقتراع ورئيسُ وزراء منتخَب لمواطنٍ أمّيّ، جائع، عار، مريض؟ ما الّذي يجعلُ مثلَ هذا المواطن يخرجُ للدّفاع عنها مُواجِها رصاصَ العسكر وأحذيةَ الجيش الغليظة؟ على العكس، سيخرجُ هذا المواطنُ لتأييدِ أيّ انقلاب عسكريّ طمَعا في وضعٍ معيشيّ أفضلَ يَنتجُ عن التّغيير. فهو عنده مجرّدُ تغيير، ولا يفهمُ أكثرَ من ذلك). وكان الزّميلُ يُشير إلى انقلابِ الإسلاميّين السّودانيّين على الدّيمقراطيّة في 30 يونيو/جوان 1989م وصمتِ الشّارع المريبِ حيال ذلك. وبِربط المقولتيْن تتّضحُ الرّؤيةُ والرّمزُ.
ولنقرأ :
(ستّةَ عشرَ عاما ولم تتفتّحْ في هذه المدينةِ وردةٌ. فسكّانُ هذه المدينةِ الدّنيئة لا يهتمّون بالورد، لم يكونُوا يُولونه عنايتَهم في القديم، ولم يفكّرُوا في الثّأر له حين دهمتْه الأحذيةُ الغليظة، بدَا وكأنّهم لا يُدركون ما للوردة من سُلطان. ظلَّ يَرقبهم ليلَ نهارَ والألمُ يُطبِق على قلبه. كان في انتظارِ بادرةٍ منهم تُبشِّر بمستقبل الورد، ولكنْ ظلّت أعينُهم جميعُها تُعانِق التّرابَ وأنوفُهم لا تفتقِدُ عطرَ الوردة أو تتساءلُ عن سرِّ اختفائِه من أسواقِ المدينة. فكيف انقلبتِ الحالُ هذا الصّباحَ؟ كيف انتصرُوا للوردة أخيرا وأخرجُوا ألسنتَهم لهذه المدينة القاسية).
والحقيقةُ أنّهم لم يَخرجوا من أجلِ الورد كما ظنّ البطلُ الصّامت الحزين. فالهويّةُ الّتي يَعتمدها هو ويجعلها أساسَ الاصطفاف والّتي تُظلُّهم جميعا بمظلّتها وتجعلُ الجميعَ يخرجون انتصارا للورد، لم تكنْ تعنِيهم في شيء، بل خرجوا من أجلِ الزّعيم الّذي ينتمونَ إليه وفقا لتصنيفٍ آخر وهُويّة أخرى. هذه الهويّةُ الجديدة الّتي يَعتمدها أنصارُ الزّعيم لا تشملُ البطلَ الصّامتَ، بل تضعُه في خانةِ الأعداء بسبب لون بشرته المختلف.
ولنقرأْ :
(لاحُوا لعينيْه المتعبَتين في البعيد طِوالَ القامة لامِعِي السّواد متأنّقين. فكّر الرّجلُ، لابدّ أنّهم أنصارُ الزّعيم، يا لشجاعتهم! اقتربُوا أكثر، ابتسمَ لهم من عينيه، ثمّ رفع يدَه السّمراء المتعَبة بشارة النّصر، اقتربُوا أكثر، فكَّر أنْ يحدِّثهم عن الوردِ وروحِه المعذَّبة. ولكنْ لم يجدْ وقتا لذلك، عاجلَه أكثرُهم أناقةً بضربةٍ قاسيةٍ على أمِّ رأسه لتتّسِعَ عيناه دهشةً وألما. صرخَ بصوتٍ متحشرج: "لماذا؟".
وهو في الرّمَق الأخير أدْركَ السّببَ كما جاء بعاليه.
وفي الختام وإنْ كان لابدّ من أنْ أُشير إلى الحدثِ الواقعيّ الّذي صِيغت القصّةُ لتصويرِ تداعياته ودلالاته،  فهو يعودُ إلى يوم الإثنين: 30 يوليو/جويلية 2005 حين سقطتْ طائرةُ الزّعيمِ الجنوبيّ ونائبِ رئيس الجمهوريّة السّودانيّ حينها العقيد (جون قرنق دي مبيور). فلقد ظنّ الجنوبيّون أنّ للإسلاميّين والحكومةِ يدٌ في الأمرِ. وبما أنّ هؤلاء شماليّون فقد انطلق الجنوبيّون في شوارعِ العاصمة يقتلُون مَن يصادفهم من الشّماليّين لا فرق بين مسلمٍ أو إسلاميّ أو متأسلِم أو ديمقراطيّ أو شيوعيّ أو من حزبِ أمّة. القتلُ فقط على لونِ البشرة. وللأسف لقد قتلوا إخوانَهم في المظلوميّة. فالكادِحُون فقط هم من يَسيرون في الشّوارع بلا حمايةٍ أو عربات مصفَّحة. الكادِحون فقط هم مَن يتواجدون في أسواق الخضار وزنك اللّحمة ويفترشون البسطات وفرندات السّوق العربيّ وحول الجامع الكبير بحثا عن الرّزق الحلال.
وردَّ الشّماليّون في اليوم التّالي بقتلِ إخوتهم في المظلوميّة من الجنوبيّين أيضا. وأخيرا انفصلَ السّودانُ إلى دولتيْن وفقا لفهم أنصارِ الزّعيم، وتشظّت الهويّةُ الجنوبيّة المتّحدة ضدّ الشّمال إلى هُويّات أصغر، وأخذتْ تتقاتلُ. والشّمالُ نفسُه ينحدرُ نحو الهاوية. والسّببُ هو أنْ لا أحدَ يهمُّه مصيرُ الورد أو يخرج متظاهرا لِنُصرة الورد. فدائما يتمُّ تزييفُ الصّراع ويصطفُّ الجميعُ وفقا لذلك.
لك التّحيةُ والشّكر. ودمتِ بخير.
d | v | c



ليست هناك تعليقات: