ذاتَ يوم،
اتّخذ الكذبُ والحقيقةُ عصا ترحالهما معا. وقال الكذبُ بلطف لرفيقته الحقيقة:
-
خلالَ
ترحالنا تتكلّمين أنتِ لا أنا لأنّ القومَ لن يُرحّبوا بنا إنْ علموا مَن أنا.
وفي
المنزل الأوّل حيث نزلا، أهِلَتْ بهما زوجةُ ربِّ البيت قبل أن يعودَ قرينُها
عند هبوط اللّيل. وما إنْ قدمَ حتّى طلبَ مِن امرأته أن تُقدِّمَ له الطّعامَ.
فقالتْ له إنّها لم تُعدَّ شيئا لعشائه. لكنْ في حقيقة الأمر سبقَ لها أن طَهتْ
في الظّهيرةِ وجبةَ الغداء لشخصيْن وخبّأتْ نصفَ الوجبة. ورغم أنّ زوجَها لم
يعلمْ بشيءٍ مِن هذا، استشاطَ غضبا. فقد عاد مِن الحقلِ جائعا سَغِبا. والتفتَ
إلى الغريبيْن الضّيفيْن، وسألهما:
-
هل تريَان
تصرُّفَ هذه المرأة تصرُّفَ ربّةِ بيت صالحة؟
ولزِم
الكذبُ جانبَ الصّمت الحكيم. إلاّ أنّ الحقيقةَ لم يكنْ بوُسْعها إلاّ أن تجيبَ.
فقالتْ بصدق إنّ ربّةَ منزل صالحةً يترتّب عليها إعدادُ كلّ شيء لعودة زوجها.
حينئذٍ تملّكت الزّوجةَ سَوْرةُ غيظ وسُخط على الغريبيْن لأنّهما أذِنا
لنفسيْهما بالتّدخّلِ في شؤون العائلة. وفي نهاية المطاف ألقتْ بهما إلى قارعة
الطّريق.
واستأنفَ الكذبُ والحقيقةُ رحلتَهما، وبلغَا
ضيعةً ثانية حيث وجدَا الأولادَ مُنهمِكين في اقتسام بقرةٍ عاقر ذُبحتْ للتّوّ
وقد استبدّ بها التّربُّلُ والسّمنةُ. وحين دخل المسافران بيتَ العمدةِ التقيا
بأولاد أتَوْا إلى العمدة لتوّهم برأسِ البقرة وأشلائها قائلين له: «هذه
هي حصّتُكَ». بيد أنّ
الجميعَ يعرفُ أنّه مِن شؤون العمدة أن يقسِمَ الحصصَ في هذه الحال. فسأل
العمدةُ الغريبيْن وقد حضرا تفاصيلَ كلّ ما حدث: «مَن
تريان أنّه الآمرُ النّاهي في هذه الضّيعة؟».
فأجابت الحقيقةُ دونما تردّد: «يبدُو
لنا أنّهم الأولادُ».
وما
إنْ سمع العمدةُ هذه الإجابةَ حتّى أرغَى وأزبد مِن الحنَق الشّديد. وأوعز بطردِ
هذيْن الغريبيْن لوقاحتهما.
عندئذٍ
قال الكذبُ للحقيقةِ رفيقتِه:
-
الحقَّ أقول
لك، لا أستطيعُ مِن بَعْدُ أن أتخلّى لكِ عن تدبير أمورنا. فسوف تدفعين بنا إلى
الموتِ جوعا. بعد هذا الحِين، سأقوم أنا بمهمّة تسيير شؤوننا.
فتخلّت
الحقيقةُ عن النّهوضِ بتدبير أمورِهما وقولِ الحقّ والصّدق. ثمّ بلغا ضيعةً ثالثة. وجلسا في ظلّ
شجرة قربَ بئر. وكانت صرخاتٌ شديدة تنبعثُ مِن القرية. وعلم الرّفيقان أنّ
محظيّةَ الملك قد قضَتْ نَـحْبَها. وقدِمتْ خادمةٌ لتسقيَ ماء وهي تبكي غَمّا
وحُزنا. فاقتربَ منها الكذبُ، وسألها:
-
ما هي المصيبةُ
الّتي تُبكيكِ كلَّ هذا البكاء وتُصيّر جميعَ القوم ينتحبون في قريتكم؟
فأجابتْ:
«ماتتْ سيّدتُنا الصّالحة زوجةُ الملك
المحظيّةُ لديه».
-
كيف! كلُّ
هذه الضّجّة بسبب أمر بسيط جدّا؟! هيّا، اِذهبي إلى الملك، وقُولي له ألاّ يحزن
وألاّ يغتمَّ مِن بعْدُ. فأنا قادرٌ، منذ سنوات وسنوات، على أن أُعيدَ الأمواتَ
إلى الحياة.
وإذا بالملكِ يُرسل بخروف جميل إلى المسافريْن
متمنّيا لهما حسنَ الوفادة. وأوعزَ أن يُقالَ للكذب أن يتمهّلَ وأنّه سيلجأ إلى
مواهبه الخارقة حين يرى الأمرَ مُواتيا. وفي الغداةِ أهدَى الملكُ خروفا جميلا
آخرَ مُكرِّرا للكذبِ كلَّ ما سبَق أن قِيل له. وتظاهرَ الكذبُ بأنّه فارغُ
الصّبر. فأرسل مَن يُخبر الملكَ بأنّه عازمٌ على الانصراف مِن القرية إنْ لمْ
يستدعِه في اليوم التّالي. واتّفق أن دُعيَ الكذبُ للمثولِ في حضرة العاهلِ.
وحين أزفت السّاعةُ مَثَلَ الكذبُ في حضرة جلالته الّذي سأله أوّلا عن أجر
خدماته وعرض عليه في النّهاية حصّةً مئويّة مِن كلّ مقتنياته الملكيّة. فرفض
الكذبُ قائلا: «أريدُ نصفَ
ممتلكاتكَ، يا جلالةَ الملك!».
وأذعنَ
العاهلُ أمام شهود، وقبِل بهذا الأجر. آنئذٍ أمر الكذبُ ببناء كوخ تماما فوق
الموقع حيث دُفنتْ محظيّةُ الملك. وحين أُنجز البناءُ بكامله، ولَـجَه الكذبُ
وحيدا متوسِّلا بأدواتٍ للنّبش والحفر، وتأكّد مِن أنّ كلَّ المنافذِ مُوصدَةٌ
بإحكام. وبعد انقضاء فترة طويلة في عملٍ كان القومُ يخمّنونه حثيثا مُضْنيا، سمعوا
الكذبَ يتحدّث بصوتٍ عال وكأنّه يتشاجر مع العديد مِن الأفراد. ثمّ خرج الكذبُ
قائلا للملك:
-
ها هي
الأمورُ قد صارتْ شاقّةً معقّدة. فما إنْ بعثتُ زوجتَكَ مِن الموت حتّى أمسكَ
والدُكَ بقدميْها وهو يقول لي: «خلِّ
هذه المرأةَ هنا! فما هي منفعتُها على الأرض؟ وماذا ستعمل لكَ؟ أمّا أنا، فإنْ
أخرجتني مِن الموت إلى الحياة ورأتْ عيناي النّورَ مِن جديد، فلن أعطيَكَ نصفَ
ما يملك ولدي. بل سأهديكَ ثلاثةَ أرباعه لأنّي كنتُ أغنى منه بكثير».
وما إنْ أنهى كلامَه حتّى ظهر جدُّكَ، ودفع بوالدك إلى الوراء، وطرده عارضا عليّ
أكثرَ مِن ذلك. والآن كلُّ أجدادِك مجتمعون هنا في الكوخ، ولا أدري إلى مَن
مِنهم أستجيبُ. ولكن لكيْ لا أجعلَك ترتبكُ ارتباكا مفرطا، قُلْ لي فقط مَن تريد
مِنهم أن أبعثَه إلى الحياة: هل هو والدك أم جدّك أم زوجتك الّتي تفضّلها؟
فأجاب العاهلُ دون أيِّ لحظة تردّد: «زوجتي!
زوجتي! ».
هذا
لأنّ الملكَ كان يرتعدُ لمجرّد التّفكير في أنّه قد يرى ظهورَ والده العجوز
الّذي سبَق له أنْ استبقاه ردحا طويلا تحت وصايته المستبدّة. فقال الكذبُ:
-
دون شكّ.
ولكنّ والدَك يعرضُ عليّ أكثرَ ممّا وعدتني به. وسأفقدُ ثروةً طائلة إنْ أضعتُ
فرصةً سخيّة كهذه.
ولـمّا رأى الكذبُ المليكَ مذعورا، أردف قائلا:
-
إلاّ إنْ
أعطيتَني، لكيْ أُخْفيَه نهائيّا، ما كنتَ وعدتَ بإعطائي لإرجاع زوجتكَ مِن بين
الأموات.
وقال لفيفٌ مِن العرّافين سبَق لهم أن ساهمُوا في
اغتيال العاهل السّابق: «في الحقيقة،
هذا هو الأمرُ الأفضل».
وتنهّد المليكُ مِن أقصى أعماقه قائلا: «حسنا،
ليبقَ والدي حيثُ هو الآن وكذلك زوجتي... ».
وهكذا
كان. ولأنّ الكذبَ لم يبعثْ أحدا مِن الموت، ظفر بثروةِ الملك الّذي لم يلبثْ أن
تزوّج مِن جديد كيْ ينسَى زوجتَه المحظيّة المرحومة.
{ أساطيرُ وحكاياتٌ
زنجيّة إفريقيّة، ترجمة: موريس جلال، وزارة الثّقافة، دمشق {
{ 2000، صص: 193-196 {
أجبْ عن الأسئلة التّالية كتابيّا:
-
في هذه
الحكاية نزعةٌ نقديّة. بيّنْ ذلك.
-
ما هي
الخصائصُ الفنّيّةُ الّتي تجعل هذا النّصَّ الحكائيَّ خرافيّا وعجائبيّا؟
-
لماذا، حسْب
رأيك، نجحَ الكذبُ حيث فشلت الحقيقةُ؟ {/
{
|
هذا الرّسمُ الّذي يمثّل شخصيّةَ الحقيقة قد أعدّتْه التّلميذةُ النّجيبة 'آية خذيري' مِن
قسم '2 علوم 1' في معهد 'المنتزه' بالكبّاريّة.
|
هذا الرّسمُ الّذي يمثّل شخصيّةَ الكذب قد أعدّتْه التّلميذةُ النّجيبة 'آية خذيري' مِن
قسم '2 علوم 1' في معهد 'المنتزه' بالكبّاريّة.
|
نسخة PDF قابلة للتّحميل
https://files.acrobat.com/a/preview/fa2142eb-be49-4e1d-9cad-67cfebbde630